كتب أ. د. عمر يوسف حمزة
الحمد لله رب العالمين، الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وجعلهم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في السلوك الفاضل والخلق النبيل، وجعل لهم أزواجاً وذرية، القائل في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾([1])، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم الذي أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبعد،،،
فمما لا شك فيه أن الأولاد في الأسرة نعمة عظيمة، وهبة من الله سبحانه القائل في كتابه الكريم: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾([2])، فالأسرة بدون الأولاد أشبه بشجرة تساقطت أوراقها وهجرتها البلابل المغردة، ولا غرو في أن يحرص كل زوجين على أن ينجبا لينعما ببهجة الأطفال والآمال المعقودة عليهم إذا ما بلغوا مبلغ الرجال وكم من زوجين فرق بينهما العقم على الرغم مما قد يكون بينهما من حب ووئام، وقد بين القرآن الكريم أن الأبناء زينة الحياة الدنيا ومتاعها، قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ﴾([3])، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها لأقوام"([4]).
وأخبرنا المولى تعالى أن بعض الأنبياء توجه إليه بالدعاء في أن يرزقه الولد وألا يدعه فرداً بلا خلف، فقال تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾([5])، وقد أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّ﴾([6]) والنداء هنا بمعنى الدعاء. وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج.
والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد عند الكبر، قاله مقاتل.
والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي([7]).
فالولد نعمة ومتعة من متع هذه الحياة، وهم كما قال عنهم الأحنف بن قيس: "ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة"([8]). وما دام الأولاد نعمة ومتعة وزينة، فإن الإسلام رتب لهـؤلاء الأبناء حقوقاً من قِبَل الآباء، وهي حقوق تقضي بها الفطرة السوية، ولكن الإسلام مع هذا وضع الضوابط والقواعد التي تحافظ عليها، وتحول دون التفريط فيها أو إساءة القيام بها([9]).
ويهتم هذا البحث بتلك الحقوق، بعنوان: (الطفولة والعناية بها في ظلال القرآن والسنة)، وينتظم البحث في مقدمة وتمهيد يلقي ضوءاً على أهمية الأسرة ورسالتها المقدسة ثم بيان حقوق الطفولة في فصلين.
يتناول الفصل الأول: الحقوق قبل الولادة، ويشتمل على مبحثين؛ المبحث الأول: حقوق الأطفال، والثاني: حق الحياة للجنين.
أمّا الفصل الثاني: حقوق الأطفال بعد الولادة حتى البلوغ، وتحته مباحث تتناول حق النسب، وحق اختيار الاسم الحسن، وحق الرضاع والحضانة، وحق التربية، وحق النفقة، كما ذيلت البحث بخاتمة تشتمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
تمهيد: أهمية الأسرة في الإسلام:
يعتبر الفرد هو اللبنة الأولى والخلية في بناء المجتمع الإسلامي، ومن أجل ذلك كانت عناية الإسلام بالأسرة واهتمامه بها باعتبارها المحضن الطبيعي الذي يقوم على رعايته، وليس هناك أجدر ولا أحق من الأسرة مكاناً لهذه الرعاية، وقد أثبتت الإحصاءات العلمية أن أهم الفترات في حياة الطفل هي السنوات الأولى من عمره، وأن طفل الأسرة المستقرة المتوافقة غير طفل الأم العاملة المرهقة المتشتتة، كما أن نتائج التفكك الأسري في الغرب كان سبباً للتشرد والانحراف وسوء الأخلاق، والأسرة في نظر الإسلام هي أساس المجتمع وخليته الأولى، هي ذات كيان دائم يراد له السمعة الطيبة والوئام والاستقرار([10])، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾([11]).
ومن هنا كانت العناية بتقوية الأسرة من أهم ما يجب على المصلحين رعايته وأخذ الطريق إليه، ولا يكون ذلك إلا بتوخي المبادئ القوية التي يشاد عليها صرح الأسرة وتضمن لها البقاء والنماء قوية مثمرة.
وقد اهتم الإسلام بتنمية الشعور الفطري الذي ينشأ من خلال الرابطة الأسرية وعمل على المحافظة على هذه الآسرة وتقويتها بالأمور الآتية:
[1] حرص الإسلام على أن يسود الصفاء والمحبة في محيط الأسرة فحدّد دائرة معينة من الأقارب حرّم فيها الزواج سمواً بهذه القرابة ووقاية لهذه القلوب المتآلفة من شواهد الخصومة والبغضاء التي تنشأ من خلال الممارسات اليومية فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمً﴾([12]).
[2] قرر حق التوارث بنظام فريد واضح ذكره القرآن الكريم يحفظ لكل ذي قرابة حقه دون نقص أو زيادة.
[3] قرر الإسلام حق النفقات للأصول على الفروع، والفروع على الأصول صيانة للحرمات وكفاية للحاجات وإغلاقاً لباب الحرج، وهذا أمر مذكور في محله في كتب الفقه بالتفصيل.
[4] قرر حق الحضانة والرضاعة اهتماماً بالأطفال وحفاظاً على الرابطة الأسرية كي تمتد وتزدهر فلا تنقطع ولا تتوقف.
[5] أوجب صلة الأرحام وقرر استمرارها بالبر والزيارة والتعهد والرعاية فقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾([13]) وجعل قطيعتها من خصال الكافرين ومن الفساد الذي نهى عنه الإسلام قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾([14]).
[6] ومراعاة للمشاعر الإنسانية قرر حق العتق لمن ملكه قريبه فقال : "من ملك ذا رحم فهو حر"([15]).