هذه القصص التي سأرويها لكم هي بعض من الكثير من الأحداث التي عشتها أثناء فترة تدريبي في إحدى المستشفيات العمومية لمدة 3 سنوات. والتي كان لها وقع كبير وأثر بالغ في تغيير نظرتي للحياة. إنها قصص لأناس أو بالأحرى لمرضى منهم من وافته المنية ومنهم من عافاه الله. عشت معهم لحظات أو أيام أو أشهر وكانت لي مع كل واحد قصة وعبرة.
بالرغم من امتناني الدائم لله على ما وهبنيه من صحة وسلامة البدن إلا أنني لم أكن أتصور كيف يكون عليه من حرم نعمة ما أو كيف يتعايش معها لم أكن لأقدر نعم الله حق قدرها حتى رأيت بعيني من ابتلوا شر البلاء ورأيت منهم الصابر والناقم. وحمدت الله حمدا كثيرا على ما أنا عليه.
قبل الولوج لهذا الميدان لم يسبق لي أن رأيت ميتا أو حضرت وفاته. فرق كبير بين أن تسمع عن وفاة شخص وبين أن تكون بجانبه وهو يصارع الموت. والأصعب هو عندما ترتبط عاطفيا بالشخص المتوفى.
قصتي الأولى حدثت في بداية سنة 2005 وهي عن فتاة في السادسة من عمرها اسمها خديجة وهي الآن من طيور الجنة نسأل الله الصبر لذويها.
فتاة لقيت من الألم والمعاناة ما لا يتحمله جسدها الصغير.كانت من أسرة بدوية تعيش على الترحال ولم يسبق لها أن زارت أية مدينة وقدر الله لها أن تزور أقربها ولكن محملة في سيارة اسعاف.
هذه الصغيرة والتي كانت أكبر أخواتها كانت تغلي الماء لتحضير الطعام فقدر الله أن ينسكب عليها ويحترق كل جسدها الصغير ومما زاد الطين بلة أنها كانت ترتدي ملابس من النايلون مما زاد حالتها سوءا.
تعرضت لحروق من الدرجة الثالثة وهي في مجملها مميتة خاصة في حالة الأطفال.
هرع بها إلى المستشفى العام لكن حالتها كانت تستدعي قسم متخصص مما يعني نقلها للعاصمة الاقتصادية للمغرب الدار البيضاء والتي تبعد أكثر من 400 كلم .
لكن الوالد رفض فقد كان المعيل الوحيد للأسرة ولا يمكنه التنقل بعيدا ولان ظروفه المالية لا تسمح البتة بالتنقل وقال أنا هنا قد أتيه فما بالكم بالدار البيضاء.
ونظرا لظروف الوالد تم تقبلها على أساس معالجتها بالتقنيات المتوفرة عسى الله يشفيها.
لم أكن أجرؤ على تغيير ضماداتها. كانت عظامها بارزة وكانت كثيرة البكاء والصراخ من الألم. الشيء الذي فطر قلبي وكنت اكتفي بمراقبة زملائي وهم يغيرون ضماداتها من وراء زجاج النافذة.
وذات يوم نادتني المشرفة وقالت أنت اليوم من ستتكلف بخديجة كدت أقع على الأرض من الصدمة ثم توكلت على الله وبينما أنا أغير الضمادات كنت أتوخى الحذر واعمل بروية كي لا تتألم وكلما تأوهت توقفت. لكن المشرفة أخبرتني انه يجب علي إزالة الجلد الميت وشطبه وذلك مؤلم جدا.
اذكر أنني كنت أقوم بذلك وأحاول عدم سماع بكائها وأنينها وأزيل وأزيل حتى يخرج الدم وهو المبتغى كي نسمح لطبقة جديدة من الجلد واللحم بالنمو. فطالبتني خديجة أن أتوقف لكني لم أعيرها اهتماما فصرخت في وجهي ونعتتني بعديمة الرحمة وسبتني نعم سبتني. كاد قلبي ينفطر لكن ولمصلحتها واصلت العمل. وأكملت ذلك العمل ...وأخيرا تنفست الصعداء.
وبعد ذلك اليوم أصبحت وخديجة صديقتين فقد كانت حقا محبوبة وقد أحبها كل من في القسم وكنت ألاعبها بهاتفها الخلوي اللعبة الذي أعطي لها.
وبمرور الأيام والأشهر تحسنت جراحها لكن صحتها كانت ضعيفة جدا لان جسدها فقد الكثير الكثير من الماء وهو ما يعتبر من المضاعفات الخطيرة المتوقعة في حالتها.
وأصيبت بحالة من الحزن والكآبة كانت ترفض الأكل وتسال متى اخرج متى أرى أمي وإخوتي متى أعود للبيت.
ازدادت حالتها سوءا وكنا نجبرها على الأكل لكن دون جدوى. فأصر والدها على إخراجها وقال لقد تعافت جراحها ولو اعدتها للبيت ستتحسن وقال لقد تعبت كثيرا منذ أشهر وأنا أبيت في المساجد وتركت زوجتي وعيالي بدون معيل أرجوكم صرحوا بخروجها. وكان له ذلك.
كانت فرحة خديجة كبيرة بعودتها للبيت. لكن أتدرون مالذي وقع !! توفيت خديجة بعد اقل من أسبوع من خروجها.
شخصيا كنت ضد خروجها فقد كانت تحتاج للرعاية لكن أتعرفون مالذي واساني أنها توفيت بين يدي والدتها وهو أفضل ما قد يحدث لصغيرة مثلها.
وأنا اكتب هذه الأسطر أتذكر ابتسامتها الحلوة كانت جميلة وبريئة وهي أول من ارتبط به من المرضى ويتوفى.