إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق جميعا ونثر عليهم من مواهبه, جاء كل واحد منهم مختلفا عن الآخر لا يشابهه ولا يطابقه, وقد أكد الله سبحانه هذا الاختلاف { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.
وهذا التفضيل قد يكون بالجسم أو بالعلم أو بطريقة التفكير أو بالأمور المادية. قال الله حكاية عن طالوت: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (البقرة247).
لذلك حرص الإسلام على مخاطبة الناس على قدر عقولهم وعلى مقدار ما يستوعبون ويفهمون؛ فورد في صحيح الإمام مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
وورد عن علي رضي الله عنه " حدثوا الناس بما يطيقون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟".
ومعنى هذا الكلام كله أن الإسلام أقر بالفروق الفردية بين الأشخاص والأفراد، أو بمعنى آخر أقر مبدأ الاهتمامات المختلفة، فما أهتم به أنا ليس بالضرورة أن تهتم به أنت, وما يهتم به ولدي هو غير الذي أهتم به. مع وجود قاعدة أساسية لهذه الاهتمامات والاختلافات.
وإن كان هذا الكلام ينطبق على المجتمع المسلم كله فهو كذلك ينطبق على الأسرة المسلمة، فما أهتم به أنا غير الذي تهتم به زوجتي؛ فلذلك كان لزاما على كل مسؤول عن أسرة أن ينتبه لهذه الفروق ولا يحولها إلى نقطة خلاف تسيء لحياته وحياة من حوله.
القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام اهتم بهذه الفروق الفردية و بيّنها، وتعامل معها تعاملا إيجابيا، وحولها من نقطة خلاف إلى نقطة تربية وتوعية، فمرة ـ كما في صحيح البخاري عن أنس قال ـ: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه (صرح غير البخاري بأنها عائشة) فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين (وصرح غيره بأنها أم سلمة) بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
والنبي في تعامله مع هذه الحادثة يعلمنا طريقة للتعامل مع فارق فردي موجود عند النساء بكثرة؛ إنه الغيرة، والتعامل بحكمة مع شيء من التجاهل.
وكذلك كانت طريقة تعامله عليه السلام مع الأطفال مراعاة منه لهذه الفروق فكان يحمل الحسن والحسين وهو في الصلاة، كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا ويضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى إذا قضى صلاته أقعدهما على فخذيه"، وكم هي سعادة الأطفال عندما يتعلقون بآبائهم وهم في الصلاة.
إن خطأ الكثير من الناس أنه يريد لزوجته أن تلغي هذه الفروق الفردية من حياتها، ويريد من أولاده أن يلغوا كذلك هذه الفروق، ويري أن يحشر الناس جميعا في رغباته الخاصة وأهوائه وما يريد هو فقط، وبالتالي لا يحصد في بيته إلا شقاء وفي مجتمعه إلا نفورا.
إن الحياة الزوجية لا تقوم على التشابه، وإنما تقوم على المودة، ومن يريد أن يجعل من أولاده نسخة منه فإنه لن يحصد إلا مرارة وشقاء. والأب الواعي والمستهدي بهدي النبي والسلف الصالح لا يجعل من هذه الفروق الفردية نقطة خلاف، إنما يحول هذه الفروق بحكمة إلى وسيلة تربوية وإرشادية.
ومن الأمثلة على الفروق الفردية التي يجب الاهتمام بها واستخدامها كوسيلة تربوية: أن بعض النساء تكون الكلمة الجميلة واللطيفة من الزوج أفضل عندهن من كثير من الأمور الأخرى، والزوج ـ مثلا ـ يعتبر هذا الكلام سخافة وهراء ولا وجود له وقد ذهب أوانه! وعدم الاهتمام بهذه النقطة ـ مثلا ـ قد يولد بعض النفور من الزوجة.
كذلك بعض الأولاد ينتظرون رجوع والدهم من عمله بفارغ الصبر ليأتي لهم ببعض الأمور كالحلوى والألعاب، لكن كثيرا من الأباء ينسون هذا وتخيب آمال الأطفال برجوع آبائهم إلى البيت.
إن الاهتمام بهذه الفروق الفردية أمر مهم وملح، ونحن بحاجة له لنثري المجتمع بالتنوع، وهو ـ لا شك ـ أمر يتماشى مع الحياة والفطرة السليمة.